فصل: فصل في ذِكْرِ المَوْتِ وَالاسْتِعْدَادِ لَه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في ذِكْرِ المَوْتِ وَالاسْتِعْدَادِ لَه:

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن مما يتأكد الاستعداد له واستشعار قربه الموت فإنه أقرب غائب ينتظر وما يدري الإنسان لعله لم يبق من أجله إلا اليسير وهو مقبل على دنياه ومعرض عن آخرته.
ولو لمن يكن بين يديه كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديرًا بأن يتنكد ويتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته.
إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلا ** وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا

فَاغْتَنِمْ خَصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ** صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا

وحقيق بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده وهو محتمل أن يقع على الإنسان بغتة كما قيل سهم بيد سواك لا تدري متى يغشاك.
قال لقمان لابنه يا بني أمر لا تدرى متى يلقاك استعد له قبل أن يفجاك.
تُؤَمِّل فِي الدُّنْيَا طَوِيلاً وَلا تَدْرِي ** إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الْفَجْرِ

فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ** وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ عَاشَ دَهْرًا إِلَى دَهْر

وقال الآخر:
قَصَّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ** فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلِ

إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى ** غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ

والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي تلذ له ويأنس بها مع الأولاد وأصدقائه وأقربائه وأخبر أن جنديًا أتى ليحضره ويدعوه إلى أمر الأمور لتنكد وتكدرت عليه لذته وفسد عليه عيشه.
وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع وهو عنه في سهو وغفلة وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور واشتغال القلب بالدنيا.
وقيل في الاستعداد للموت هو أن يتوب الإنسان توبة طاهرة عن الذنوب والخطايا بأن لو قيل له إنك تموت الساعة ما وجد عنده ذنبا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله.
فإن كان يجد ذنبًا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله. كسرقةٍ وغصب مالٍ أو أرض أو غيبة أو معاملة لا تجوز أو يأكل من حرام أو مشتبه.
أو مصرًا على زكاة أو على بعضها أو كاتمًا لأمانة أو لا يشهد الجمعة والجماعة أو عنده من آلات اللهو شيء في بيته أو دكانه كتلفزيون أو سينما أو مذياع أو فيديو.
أو يبيع ويشتري بها أو له أسهم فيما يستمد منه أهل المعاصي تنويرًا أو لتصليح آلات اللهو أو نحو ذلك أو مصرًا على التشبه بالكفرة كحلق لحية أو جعل خنافس أو مصرًّا على شرب خمر أو دخان أو يصور أو يبيع ويشتري بها أو مجالس للفسقة أو الكفرة أو ساكنًا معهم أو في بلادهم أو عنده كفار كخدامين وسواقين ومربين وخياطين.
فإنه لم يستعد للقاء الله عز وجل لأنه لا يستشار ولا يؤخذ رأيه في إخراج روحه والموت يأتيه فجأةً فإن جاءه الموت وذلك الذنب عنده لم يأمن من أن يغضب الله عليه.
وكيف يكون مستعدًا للقاء الله من هو مقيم على ما يغضب الله من المعاصي ولا يأمن أن يأتيه الموت أغفل ما كان والموت آتيه لا محالة صدق الله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ}.
يَا مَنْ تَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّتَهَا ** وَلا تَنَامُ عَنِ اللَّذَاتِ عَيْنَاهُ

شَغَلْتَ نَفْسَكَ فِيمَا لَيْسَ تَدْرِكُهُ ** تَقُولُ للهِ مَاذَا حِينَ تَلْقَاهُ

آخر:
النَّاسُ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ لا بَقَاءَ لَهُمْ ** لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوا

وقال جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} إلا أنه ليس للموت وقت معلوم عند الناس فيخاف في ذلك الوقت ويؤمن منه في سائر الأوقات.
تَغَنَّمْ مِنَ الدُّنْيَا بِسَاعَتِكَ الَّتِي ** ظَفِرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكَ الْعَوَائِقُ

فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِرَاجِعٍ ** وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقُ

مَنْ كَانَ لا يَطَأ التُّرَابَ بِنَعْلِهِ ** وَطِيءَ التُّرَابُ بِصَفْحَةِ الْخَدِّ

مَنْ كَانَ بَيْنَكَ فِي التُّرَابِ وَبَيْنَهُ ** شِبْرَانِ فَهُوَ بِغَايَةِ الْبُعْدِ

لَوْ كُشِفَتْ لِلنَّاسِ أَغْطِيَةُ الثَّرَى ** لَمْ يُعْرَفِ الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْد

فليس يأتي في الشتاء دون الصيف فيخاف من الشتاء ويؤمن في الصيف ولا بالعكس ولا في النهار فيؤمن بالليل ولا بالعكس.
وليس وقت من العمر معلوم عند الناس فيأخذ أبناء الخمسين فيأمنه من دون ذلك وليس له علة دون علة كالحمى والسل فيأمنه من لم يصبه ذلك.
فحق على العالم بأمر الله عز وجل وأنه الذي انفرد بعلم ذلك الوقت أن لا يأمنه في وقت من الأوقات وأن يكون مستعدًا له أتم الاستعداد.
فمن ذكر الموت بفراغ قلب من كل شيء مع ذكره عظيم ما يأتي البشر من العذاب أو بالرحمة مع الاعتبار بالذين مضوا قبله ممن فوقه ودونه وأشكاله وأمثاله من أقارب وأصدقاء وزملاء وأقران وجيران ومشايخ وملوك وأساتذة وإخوان.
ومن فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم.
ويحثك ذكر الموت عن حالتي ضيق وسعة ونعمة ومحنة.
فإن كان في حال ضيقه ومحنة فذكر الموت سهل عليه بعض ما هو فيه إذ لا مصيبة إلا الموت أعظم منها وهو ذائقة ولا بد.
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وإن كان في حال سعة ونعمة.
عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ** وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيّعُ

وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِ ثَنِيَّةٍ ** مُلْقَى لَهُ بَطْنُ الصَّفَائِحِ مُضَيّعُ

أَتَرَاهُ يَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا أَسَأَرُوا ** وَمِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافْ مَا يَتَجَرَّعُ

فذكر الموت يمنعه من الاغترار بالدنيا والركون إليها لتحقق عدم دوامها وتحقق ذهابها عنه وانصرامها.
قال الله جل وعلا وتقدس: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.
أيَا صَاحِ كنْ في شأنْ دُنْيَاكَ هَذِهِ ** غَرِيبًا كَئِيبًا عَابِرًا لِسَبِْيلِ

وعُدَّ مِن أهْلِ القَبْرِ نَفْسَكَ إِنَّمَا ** بَقَاؤُكَ فِيهَا مِنْ أَقَلِّ قَلِيْل

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته: أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغَّض إليك كل فان.
وقال بعض العلماء: الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق ويستكمل جميع أجزائك فكيف تبقى سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعات بك ولكن تدبير الله فوق كل تدبير.
قال بعضهم يرثي أخًا له:
يَا صَاحِبِيْ إِنَّ دَمْعِيْ اليَوْمَ مُنْهَمِلٌ ** عَلى الخُدُوْدِ حَكَاهُ العَارِضُ الهَطِلُ

وَفِي الْفُؤادِ وَفِي الأَحْشَاءِ نَارُ أَسىً ** إِذَا أَلَمَّ بِهَا التِّذْكَار تَشْتَعِلُ

عَلى الأَحِبَّةِ والإِخْوَانِ إِذْ رَحَلُوْا ** إِلَى المقَابِرِ والألْحَادِ وانْتَقَلُوْا

كُنَّا وَكَانُوْا وَكَانَ الشَّمْلُ مُجْتَمِعًا ** وَالدَّارُ آهِلَةٌ َوَالحَبْلُ مُتَّصِلُ

حَدَا بِهِمْ هَادِمُ اللَّذَّاتِ في عَجَلٍ ** فَلَمْ يُقِْيمُوا وَعَنْ أَحْبَابِهِمْ شُغِلُوا

وَلَمْ يَعُوْجُوا عَل أَهْلٍ وَلاَ وَلَدٍ ** كَأَنَّهمْ لَمْ يَكُوْنُوا بَيْنَهَمْ نَزَلُوْا

إِنِّي لأَعْجَبُ لِلدُّنْيَا وَطَالِبهَا ** وَلِلْحَرِيْصِ عَلَيْهَا عَقْلُهُ هَبَلُ

وَغَافِلِ لَيْسَ بالْمَغْفُولِ عَنْهُ وَإِنْ ** طَالَ المَدَى غَرَّهُ الإمْهَالُ وَالأَمَلُ

نَاسٍ لِرِحْلَتِهِ ناَسٍ لِنُقْلَتِهِ ** إِلَى القُبُور التيْ تَعْيَا بِهَا الحِيَلُ

فِيْهَا السؤال وَكَمْ هَوْلٍ وَكَمْ فِتَنٍ ** لِلْمُجْرِمِينَ اَلأُلَى عَنْ رَبِّهِمْ غَفَلُوا

وَفِي القُبُوْرِ نَعِيْمٌ لِلتَّقيّ كَمَا ** فِيْهَا العَذَابُ لِمَنْ في دِينِهِ دَخَلُ

قُلْ لِلْحَزِيْنِ الذِيْ يَبْكِي أَحِبَّتَهُ ** ابْكِ لِنَفْسِكَ إِنَّ الأَمْرَ مُقْتَبِلُ

فَسَوْفَ تَشْرَبُ بالكَأْسِ الذِي شَرِبُوا ** بِهَا إِنْ يَكُنْ نَهلٌ مِنْهَا وَإِنْ عَلَلُ

فَاغْنَمْ بَقِيَّةَ عُمْرٍ مَرَّ أَكْثَرُهُ ** فِي غَيْرِ شَيءٍ فَمَهْلاً أَيُّهَا الرَّجُلُ

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين.
اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح.
اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين.
اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
فصل: ثم اعلم ألهمنا الله وإياك الرضا بقضائه وقدره ورزقنا وإياك وجميع المسلمين الاستعداد لما أمامنا أنه ما من مخلوقٍ مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به وخاضع لسلطانه.
ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل المطهرين المقربين.
وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه وخيرته من خلقه سيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}.
فالموت حتم لا محيص ولا مفر منه يصل إلينا في أي مكان كنا قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}.
ولو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه أو قوة في بدنه أو وفرةٍ في ماله أو سعةٍ في سلطانه وملكه لنجا من الموت كثير من الناس.
وإلا فأين عاد وثمود وفرعون ذو الأوتاد أين الأكاسرة وأين القياصرة والصناديد الأبطال ذهبوا في خبر كان.
سَلِ المَدائِن عَمَّنْ كَانَ يَمْلِكُهَا ** هَلْ أَنَسِتْ مِنْهُمْ مِن بَعْدِهمْ خَبَرا

فَلَوْ أَجَابَتْكَ قَالَتْ وهيَ عَالمةٌ ** بِسِيْرَة الذاهِبِ الماضِي ومَنْ غَبَرَا

أَرَتْهُمْ العِبَرَ الدُنِْيَا فما اعْتَبَرُوا ** فصَيَّرتْهُمْ لِقَوْمٍ بَعْدَهُمْ عِبَرَا

آخر:
نَبْكِي عَلى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ ** جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّقُوْا

أَيْنَ الأَكَاسِرَةُ الجَبَابِرَةُ الأُلَى ** كَنَزُوا الكُنُوزَ فمَا بَقَيْنَ وَلا بَقُوْا

مَنْ كُلِّ مَنْ ضَاقَ الفَضَاءُ بِجَيْشِهِ ** حَتَّى ثَوَى فَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ

فَالمَوْتُ آتِ وَالنُّفُوسُ نَفَائِسٌ ** وَالمُسْتَغَرُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ

فالموت لا يخشى أحدًا من الخلق ولا يبقي على أحدٍ منهم ويهجم على الكبير والصغير والقوي والضعيف والمعالج والمعالَج والغني والفقير والرئيس والمرؤوس وكل عنده على السوى كما قيل:
هُوَ الموتُ مُثْرٍ عِنْدَهُ مِثْلُ مُعْدِمٍ ** وَقَاصِدُ نَهْجٍ مِثْلُ آخَرَ نَاكِبِ

وَدِرْعُ الفَتَى في حُكْمِهِ دِرْعُ غَادَةٍ ** وَأَبْيَاتُ كَسْرَى مِن بُيُوتِ العَنَاكِبِ

آخر:
إِذَا نَزَلَ المَقْدُوْرُ لم تُلْفِ لِلْقَطَا ** نُهُوضًا ولا لِلْمُخْدِرَاتِ إِبَاءُ

فمتى لزم ذلك وداوم عليه بتدبرٍ وتفكرٍ بقلبٍ حاضرٍ في كل وقت عظمت معرفته بالموت وفجأته وأنه نازل به كما نزل بمن مضى قلبه لا محالة فإذا عظمت معرفته قصر أمله فإذا قصر أمله حذر قلبه من الموت ارتقب فإذا كان مرتقبًا له سارع إلى الاستعداد والاستباق إلى الخيرات قبل الفوات.
لا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى خَيْرٍ تُقَدِّمَهُ ** مَا دَامَ مَلْكٌ لإِنْسَان ولا خَلَدَا

فأَمْهِدْ لِنَفْسَكَ وَالأَقْلامُ جَاريةٌ ** وَالتَّوبُ مُقْتَبِلٌ فَاللهِ قَدْ وَعَدَا

ولا بأس بالتداوي إذا وقع به المرض أو وجع بما هو مباح فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: «أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاءٍ إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل شجر».
وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد: «إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت». فإذا أراد الله الشفاء يسر ذلك للعبد ووفقه لاستعمال الدواء على وجهه وفي وقته فيبرأ بإذن الله.
قال القرطبي على قوله لم يضع له شفاء هذه الكلمة صادقة لأنها خبر عن الصادق المصدوق عن الخالق القدير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فالداء والدواء خلقه والشفاء والهلاك فعله وربط الأسباب بالمسببات حكمته وحكمه فكل بقدرٍ لا معدل عنه.
تَوقِي الدَّاءِ خَيْرٌ مِنْ تَصَدٍّ ** لأَيْسَره وَإنْ قرُبُ الطَّبِيبُ

وقال ابن حجرٍ على قوله جهله من جهله ومما يدخل فيها ما يقع لبعضهم أنه يداوي من داءٍ بدواءٍ فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء فلا ينجح وسببه الجهل بصفةٍ من صفات الدواء فرب مريضين تشابها ويكون أحدهما مركبًا لا ينجح فيه ما ينجح غير المركب فيقع الخطأ وقد يكون متحدًا لكن يريد الله أن ينجح وهنا تخضع رقاب الأطباء ولهذه قال بعضهم:
إِن الَّطبِيْبَ لَذُو عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ ** مَا دَامَ في أَجَلِ الإِنْسَانِ تَأْخِيرُ

حَتىَّ إِذَا مَا انْقَضَتْ أَيَّامُ مُدَّتِِهِ ** حَارَ الطَّبِيبُ وَخَانَتْهُ العَقَاقِيرُ

ومما ورد في الحث على الاستعداد للموت ما يلي:
يا رَاِقدَ الليل مَسْرُوْرًا بأَوْلِه ** إِنَّ الحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقنَ أَسْحَارَا

كَمْ قَدْ أَبَادَتْ صُرُوْفُ الدَّهْرِ مِن مَلِكٍ ** قَدْ كَانَ في الدهرِ نَفَّاعًا وَضَرَّارَا

يَا مَن يُعَانِقُ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا ** يُمْسِي وَيُصْبِحُ في دُنْيَاهُ سَفَّارَا

هَلا تَرَكْتَ مِن الدُنْيَا مُعَانَقَةَ ** حَتَّى تُعَانِقَ في الفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا

إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الخُلْدِ تَسْكُنُهَا ** فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ لا تَأْمَنِ الدَّارَا

قال أبو الحسين الأهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب. ولا تبقي لصاحب. فخذ زادًا من يومك لغدك فلا يبقي يوم عليك ولا غد.
ويقال إنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوبًا هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه:
سَلامٌ على أَهِل القُبورِ الدَّوَارِس ** كَأَنَّهُمُ لَمْ يَجْلِسُوا فِي الْمَجَالِسِ

وَلَمْ يَشْرَبُوا مِن بَارد الْمَاءِ شربةً ** وَلَمْ يَأْكُلُوا مَا بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسِ

فَقَدْ جَاءَنِي الْمَوْتُ الْمَهُولُ بِسَكْرَةٍ ** فَلَم تُغْنِ عَنِّيِ أَلْفُ آلافِ فارِسِ

فَيَا زَائِرَ الْقَبْرِ اتَّعِظْ وَاعْتَبِرْ بِنَا ** وَلا تَكُ فِي الدُّنْيَا هُدِيْتَ بآنِسِ

خراسَانُ نَحْوِيها وأطرافَ فارِسٍ ** وما كُنْتُ عن مُلْكِ العِرَاقِ بآيِسِ

سَلامٌ على الدُنْيَا وطِيْبِ نَعِيمِها ** كَأَنْ لم يَكُنْ يَعُقوبُ فِيها بِجَالِس

وأقبل رجل من المقبرة فقيل له من أين جئت فقال من القافلة النازلة قيل له ماذا قلت لهم وماذا قالوا لك.
قال: قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: حين ينتهي القادمون. وقال آخر: أجالس قومًا إن حضرت وعظوني ولم يؤذوني وإن غبت لم يغتابوني يريد الموتى.
وَكَيْفَ أَشِيد فِي يَوْمِي بِنَائِي ** وَأَعْلمُ أَنَّ فِي غَدٍ عَنْهُ ارْتِحَال

فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ فِي مَحَلٍ ** فَإِنَّ الْقَاطِنِين عَلَى ارْتِحَال

آخر:
زَيَّنْتْ بَيْتَكَ جَاهِدًا وعَمَرْتَهُ ** ولَعَلَّ غَيْرَكَ صَاحَبٌ لِلْبَيْتِ

وَالْمَرْءُ مُرْتَهَنٌ بِسَوفَ ولَيتَنِي ** وَهَلاكُهُ في سَوْفِهِ وَاللَّيْتِ

أَلا أَيُهَا المَغْرورُ في نَومِ غَفْلَةٍ ** تَيَقَّظْ فإنَّ الدَّهَر للناسِ ناصِحُ

فكَمْ نائِم في أوَّلِ الليلِ غَافِلٍ ** أَتَاهُ الرَّدَى في نَوْمِهِ وهو صَابِحُ

فَشْقَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جَيْبَ صَبَاحِهِ ** وقَامَتْ عَلَيْهِ لِلطُّيُورِ نَوَائِحُ

اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا وهب لنا موبقات الجرائر واستر علينا فاضحات السرائر ولا تخلنا في موقف القيامة من برد عفوك وغفرانك ولا تتركنا من جميل صفحك وإحسانك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
ثم اعلم أن الإكثار من ذكر الموت مستحب مرغب فيه وله منافع وفوائد جليلة منها:
1- تقصير الأمل.
2- الزهد في الدنيا.
3- القناعة منها باليسير.
4- الرغبة في الآخرة.
5- التزود للآخرة بالأعمال الصالحة.
6- الإعتناء بالوصية والمبادرة فيها.
7- الابتعاد عن المعاصي.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت». وكان صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: «أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه».
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الأكياس من الناس من هم؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم له استعداد أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا ونعيم الآخرة». وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكثروا ذكر هاذم اللذات». يعني الموت فإنه ما كان في كثير إلا جزأه رواه الطبراني بإسناد حسن.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمجلس قوم وهم يضحكون فقال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات». أحسبه قال: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعةٍ إلا ضيقه». رواه البزار بإسناد حسن والبيهقي باختصار.
وفي حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم عليه السلام قال: «كانت عبرًا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح عجبت لم أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل». رواه ابن حبان في صحيحه.
وجِيرَان صِدْقٍ لا تَزاوُرَ بَيْنَهُمْ ** على قُرْبِ بَعْضٍ التَّجاوُرِ مِنْ بَعْضِ

كَأنَّ خَوَاتِيمًا مِن الطِّينِ فوقهِمْ ** فَلَيْسَ لَهَا حَتَّى القِيَامةِ مِنْ فَضِّ

آخر:
قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَاتِهَا ** مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا

وَمَنْ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا ** قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوْعَاتِهَا

أَمَّا السُّكُونُ لِذِي الْعُيُونِ فَوَاحِدٌ ** لا يَسْتَبِيْن الْفَضْل فِي دَرَجَاتِهَا

لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخْبَرُوْكَ بِأَلْسُنٍ ** تَصِفُ الْحَقَائِقُ بَعْدَ مِنْ حَالاتِهَا

أمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ فِي رَوْضَةٍ ** يَفْضي إِلَى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا

وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلَّبٌ ** فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إِلَى حَيَاتِهَا

وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ ** فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا

آخر:
وَمَا زَالَتِ الدُّنْيَا طَرِيقًا لِهَالِكٍ ** تَبَايَنُ فِي أَحْوَالِهَا وَتُخَالِفُ

فَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَآتِمٌ ** وَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَعَازِفُ

فَمَنْ كَانَ فِيهَا قَانِطًا فَهُوَ طَاغِنٌ ** وَمَنْ كَانَ فِيهَا آمِنًا فَهُوَ خَائِفُ

ووجد مكتوب على جدار محلة قديمة بغربي بغداد:
هَذِي مَنَازِلُ أَقْوَامٍ عَهِدتهمُ ** فَي خَفْضِ عَيْشٍ وَعِزّ مَالِهِ خَطَرُ

صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتِ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا ** إِلَى الْقُبُورِ فَلا عَيْنٌ وَلا أََثَرُ

آخر:
تَرَى الَّذِي اتَّخَذَ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا ** لَمْ يَدْرِي أَنَّ الْمَنَايَا عَنْهُ تُزْعِجُهُ

مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مَدْرَجُهُ ** وَالْقَبْرَ مَنْزِلُهُ وَالْبَعْثُ مَخْرَجُهُ

وَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَّاتٍ سَتُبْهِجُهُ ** يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ نَارِ سَتُنْضِجُهُ

فَكُل شَيْءٍ سِوَى التَّقْوَى بِهِ سَمَجٌ ** وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَسْمَجُهُ

وعن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس إلى قبر منها فقال: «ما يأتي على هذا القبر يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلقٍ طلقٍ يا ابن آدم نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه». ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». رواه الطبراني في الأوسط.
ثم إن الناس في هذا المقام على أقسام منهم المنهمك في الدنيا المحب لشهواتها فهذا يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت وإن ذكر به كرهه ونفر واشمأز منه وتناساه وربما كره الذي ذكر الموت وتباعد عنه، وقسم منهمك أيضًا وغارق في بحور الدنيا ولا يذكر الموت وإن ذكره فذكره له تأسفًا على دنياه ومفارقتها.
وأقرب علاج لهذا القسم أن يطيلوا التفكر ليلهم ونهارهم في أجل هذه الحياة وهم إذا فكروا في ذلك عرفوا قطعًا أنهم تاركوها ولابد وليس ذلك بعد مائة سنة بل هم في كل لحظة مهددين بفراق الدنيا مرغمين لا مختارين ويتركون كل شيءٍ وحينئذ يستوي من يملك الملايين والعمارات والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والأراضي والملايين البلايين مما ذكر.
ومن لا يملك منها إلا ثوبه فقط يستويان في أن كلا منهما كأنه لم ير هذا الوجود ولكنهما يختلفان اختلافًا عظيمًا في برزخهما وفي آخرتهما، ومن الدواء النافع لمن أصيب بمرض حب الدنيا أن ينظر بعينه إلى من في المستشفيات من المرضى الذين تنوعت أمراضهم وبود أحدهم لو ملك الدنيا وبذله لمن يشفيه من مرضه أو يخففه عنه.
مَنْ عَاشَ لَمْ يَخْل مِنْ هَمٍّ وَمِنْ حَزَنٍ ** بَيْنَ الْمَصَائِبِ مِنْ دُنْيَاهُ وَالْمِحَنِ

وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ ** فَرَاحِلٌ خَلَّفَ الْبَاقِي عَلَى الظَّعَنِ

وَكُلُّنَا بِالرَّدَى وَالْمَوْت مُرْتَهَنٌ ** فَمَا نَرَى فِيهِمِا فَكًا لَمُرْتَهَنِ

آخر:
وَقُلْ غنَاءٌ عَنْكَ مَالاً جَمَعْتَهُ ** إِذَا كَانَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لاحِدُ

وكذلك ينظر إلى الموتى الذين يموتون كل يوم في المستشفيات وغيرها من مثله في السن وأقل وأكبر وينظر إلى الذين يموتون حوله من أبنائه وإخوانه وأحبابه وجيرانه ومن تقع عليهم عينه قائلاً لنفسه أي فرق بينك وبين هؤلاء فإذا أذعنت واعترفت أنه لا فرق بادرها بقوله إذا ستكونين مثلهم.
فمع تكرار هذا تتبدل حاله بإذن الله وتهون عليه الدنيا ويسهل عليه إخراج الأعمال الخيرية مهما كثرت إن هذا المنظر تنصدع له القلوب انصداعًا لا تهون بها الدنيا فقط ولذلك كان بعض السلف إذا شيع جنازة رجع لا يعي وربما مكث أيامًا مريضًا من هذا الهول الذي نزل به وأذهله حتى عن نفسه قال الشاعر:
وَلَمْ أَرَى كَالأَمْوَاتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا ** وَلا وَاعِظِي جُلاسَهُمْ كَالْمَقَابِر

وكيف لا يكون وهو يرى أحد إخوانه جثة هامدة في منتهي الخضوع لمن يودعون في تلك الحفرة المظلمة لا ينازعهم عند إدخالهم له في أي تصرف يتصرفونه فيه وقد كان قبل ذلك تضيق عنه الدنيا على سعتها.
كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَقَصْرُكَ الْمَوْت ** لا مَزْ حَلٌ عَنْهُ وَلا فَوْتُ

يَبْنَا غِنَى بَيْتٍ وَبَهْجَتُهُ ** زَالَ الْغِنَى وَتَقَوَّضَ الْبَيْتُ

آخر:
وَقَبْلُكَ دَاوَى الْمَرِيضَ الطَّبِيبُ ** فَعَاشَ الْمَرِيضُ وَمَاتَ الطَّبِيبُ

فَكُنْ مُسْتَعِدًا لِدَار الْفَنَا ** فَإِنَّ الَّذِي هُوَ آتٍ قَرِيبُ

لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ** هَلْ وَجَدْتَ الْيَوْمَ فِيهِ مِنْ مَزِيدْ

وَهَلِ الْبَاطِنُ فِيهِ مِثْل مَا ** هُوَ فِي الظَّاهِرِ تَزْوِيقًا وَشِيدْ

وَهَلِ الْمَضْجَع فِيْهِ لِيِّنٌ ** أَوْ سَعِيرٌ مَا لَهَا فِيهِ خُمُودْ

وَهَلِ الأَرْكَانُ فِيهِ بِالتُّقَى ** نَيِّرَاتٌ أَوْ بِأَعْمَالِكَ السُّودْ

لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ** أَشْقِيٌّ أَنْتَ فِيهِ أَمْ سَعِيدْ

أَقَرِيب أَنْتَ مِنْ رَحْمَةِ مَنْ ** وَسِعَ الْعَالَمَ إِحْسَانًا وَجُودْ

أَمْ بَعِيدٌ أَنْتَ مِنْهَا فَلَقَدْ ** طُرِقَتْ دَارُكَ بِالْوَيْلِ الْبَعِيدْ

وَلَقَدْ حَلَّ بِأَرْجَائِكَ مَا ** ضَاقَ عَنْهُ كُلَّ مَا فِي ذَا الوُجُودْ

أَيُّهَا الْغَافِلُ مِثْلِي وَإِلَى ** كَمْ تَعَامَى وَتَلوِّي وَتَحِيدْ

أَُدْنُ فَاقْرَأْ فَوْقَ رَأْسِي أَحْرُفًا ** خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِنْ قَلْبٍ عَمِيدْ

صَرَعَتْهُ فِكْرَةٌ صَادِقَةٌ ** وَهُمُومٌ كُلَّمَا تَمْضِي تَعُودْ

وَنَدَامَاتٌ لأَيَّامٍ مَضَتْ ** هُوَ مِنْهَا فِي قِيَامٍ وَقُعُودْ

وَغَدًا تَرْجِعُ مِثْلِي فَاتَّعِظْ ** بِي وَإِلا فَامْضِ وَاعْمَلْ مَا تُرِيدْ

قَدْ نَصَحْنَاكَ فَإِنْ لَمْ تَرَهُ ** سَيَرَاهُ بَصَرٌ مِنْكَ حَدِيدْ

آخر:
كَأَنِّي بِنَفْسِي وَهِيَ فِي السَّكَرَاتِي ** تُعَالَج أَنْ تَرْقَى إِلَى اللَّهَوَاتِي

وَقَدْ زُمَّ رَحْلِي وَاسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ** وَقَدْ آذَنَتْنِي بِالرَّحِيلِ حَدَاتِي

إِلَى مَنْزِلٍ فِيهِ عَذَابٌ وَرَحْمَةٌ ** وَكَمْ فِيهِ مِنْ زَجْرٍ لَنَا وَعِظَاتِي

وَمِنْ أَعْيُنٍ سَالَتْ عَلَى وَجَنَاتِهَا ** وَمِنْ أَوْجُه فِي التُّرَابِ مُنْعَفِرَاتِي

وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ ** وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى الْحَسَرَاتِي

وقال آخر:
لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْْفَتَى ** إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْر

آخر:
الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ ** مَاذَا عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِنْ لاهِ

مَاذَا يَرَى الْمَرْءُ ذُو الْعَيْنَيْنِ مِنْ عَجَبٍ ** عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى اللهِ

آخر:
إِذَا مَا صَارَ فَرْشِي مِنْ تُرَابٍ ** وَبِتُّ مُجَاوِرَ الرَّبّ الرَّحِيمِ

فَهَنُّونِي أَصيْحَابِي وَقُولُوا ** لَكَ الْبُشْرَى قَدِمْتَ عَلَى الْكَرِيم

وقسم تائب يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف فيفي بتمام التوبة وربما يكره الموت خشية أن يختطفه قبل تمام توبته وقبل إصلاح الزاد ولا يدخل هذا تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم من كره لقاء الله كره الله لقاءه لأن هذا لا يكره لقاء الله بل يكره فوت لقاءه.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». فقلت: يا نبي الله أكراهية للموت فكلنا يكره الموت. قال: «ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه».
وفي رواية شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». قال: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا إن كان كذلك فقد هلكنا.
فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وليس منا أحدًا إلا وهو يكره الموت».
فقالت: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالذي نذهب إليه ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه رواه مسلم.
أخرج ابن المبارك وأحمد والطبراني في الكبير عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له.
قلنا: نعم يا رسول الله، قال: «فإن الله يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا ربنا فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد وجبت لكم مغفرتي».
وأخرج ابن المبارك عن عقبة بن مسلم قال ما من خصلة في العبد أحب إلى الله من أن يحب لقاءه.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد، أتاه ملك الموت عليه السلام.
فقال أتاك رسول بعد رسول ونذير بعد نذير فلم تعبأبه، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
أَيْنَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِ الثَّرَى وَطِئُوا ** وَحُكِّمُوا فِي لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاحْتَكَمُوا

وَمَلُكِّوا الأَرْضَ مِنْ سَهْلٍ وَمِنْ جَبَلٍ ** وَخَوَّلُوا نِعَمًا مَا مِثْلِهَا نِعَمُ

لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَلَى ظَنِّ الْقُلُوب بِهِمُ ** إِلا رُسُوم قَبُورٍ حَشْوُهَا رِمَم

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
فصل: وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله». قيل كيف يستعمله قال: «يوفقه بعمل صالح قبل الموت».
وأخرج أحمد والحاكم عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أحب عبدًا عسله».
قالوا: وما عسله؟ قال: «يوفق له عملاً صالحًا بين يدي أجله حتى يرضى عنه جيرانه».
وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ** أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ

وأخرج ابن أبي الدنيا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إذا أراد الله بعبد خيرًا بعث إليه قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يموت على خير أحايينه فيقول الناس مات فلان على خير أحايينه.
فإذا حضر ورأى ما أعد الله له جعل يتهوع نفسه من الحرص على أن تخرج فهناك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه»
.
وإذا أراد الله بعبده شرا قيض له قبل موته بعامٍ شيطانًا يضله ويغويه حتى يموت على شر أحايينه فيقول الناس قد مات فلان على شر أحايينه.
فإذا حضر ورأى ما أعد الله جعل يتبلع نفسه كراهية أن تخرج فهناك كره لقاء الله وكره الله لقاءه.
وأخرج الطبراني في الكبير وأبو نعيم عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر تسيل كما تسيل نفس الحمار. وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه. وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها».
وأخرج ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم قال: إذا بقى على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه من الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة.
وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفًا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم ليصير إلى النار.
وأخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في الكظ عند الموت».
الكظ الهم الشديد الذي يملؤ الجوف وأخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم عن سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أرقبوا الميت عند موته ثلاثًا».
إن رشحت جبينه وذرفت عيناه وانتشرت منخراه فهي رحمة من الله قد نزلت به.
وإن غط غطيط البكر المخنوق وخمد لونه وأزبد شدقاه فهو عذاب من الله قد حل به.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه والمروزى في الجنائز عن ابن مسعود قال إن المؤمن يبقى عليه خطايا يجازي بها عند الموت فيعرق لذلك جبينه.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علقمة بن قيس أنه حضر ابن عمٍ له وقد حضرته الوفاة فمسح جبينه فإذا هو يرشح.
فقال الله أكبر حدثني ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «موت المؤمن يرشح الجبين وما من مؤمن إلا له ذنوب يكافأ بها في الدنيا ويبقى عليه بقية يشدد بها عليه عند الموت».
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علقمة أنه حضر ابن أخ له لما حضر، أي حضره الموت فجعل يعرق جبينه فضحك فقيل له ما يضحكك.
قال سمعت ابن مسعود يقول: إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر أو الفاجر تخرج من شدقة كما تخرج نفس الحمار.
وإن المؤمن ليكون قد عمل السيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها وإن الكافر أو الفاجر ليكون قد عمل الحسنة فيهون عليه عند الموت.
وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن سفيان قال: كانوا يستحبون العرق للميت قال بعض العلماء إنما يعرق جبينه حياءً من ربه لما اقترف من مخالفته لأن ما سبق منه قد مات.
وإنما بقيت قوى الحياة وحركاتها فيما علا والحياء في العينين.
والكافر في عمى عن هذا كله.
والموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به.
وأخرج ابن أبي الدنيا إسحاق قال قيل لموسى كيف وجدت طعم الموت قال كسفودٍ... أدخل في جزة صوف فامتلخ، أي جذب قال يا موسى قد هون عليك.
وأخرج أحمد في الزهد والمروزي في الجنائز عن أبي مليكة أن إبراهيم لما لقي الله قيل له كيف وجدت الموت قال: وجدت نفسي كأنها تنزع بالسلاسل قيل له قد يسرنا عليك الموت.
وروي أن موسى لما صار روحه إلى الله تعالى قال له ربه يا موسى كيف وجدت ألم الموت قال وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلي لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير.
وأخرج الديملي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت... وأفضل العبادة التفكر فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة».
وقال علي رضي الله عنه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ونظم هذا المعنى بعضهم فقال:
وَإِنَّمَا النَّاسُ نِيَامٌ مَنْ يَمُتْ ** مِنْهُمْ أَزَالَ الْمَوْتَ عَنْهُ وَسَنَهُ

آخر:
يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلُ فَاسْمَعِي ** مَقَالَةً مِنْ مُرْشِدٍ نَاصِحِ

مَا صَحِبَ الإِنْسَانَ فِي قَبْرِهِ ** غَيْرُ التُّقَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحِ

آخر:
ثَنَاءُ الْفَتَى يَبْقَى وَيَفْنَى ثَرَاؤُهُ ** فَلا تَكْتَسِبْ بِالْمَالِ شَيْئًا سِوَى الذِّكْرِ

فَقَدْ مَاتَ أَهْلُ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ** وَذِكْرُهُمْ غَضُّ جَدِيدُ إِلَى الْحَشْرِ

آخر:
إِنَّ التُّقَى أَحْلَى الْمَلابِسِ كُلِّهَا ** يَكْسُوا الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَلالا

وَيَحِلُّ صَاحِبَهُ بِأَحْسَنِ مَنْزِلٍ ** يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالأَنَامُ ذُهَالا

آخر:
وَمَا اغْبِطُ الإِنْسَانِ إِلا أَخَا التُّقَى ** وَمَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ بِالْمَجْدِ أَجْدَرَا